لم يكن قد فكر منذ زواجهما في امكانية حملها باعتبار السنوات الطويلة التي قضتها مع زوجها بدون انجاب .. في واقع الامر لم يكن يهتم .. فزواجه بامونة لم يكن من اجل انجاب مزيد من الابناء .. لقد تزوج بها لاجلها هي .. لا يحتاج لغير وجودها ... فهي الحبيبة والابنة والام وكل ما يرغب فيه في حياته .. لكن فكرة حملها لطفله جعلته يحلّق من السعادة .. انهال عليها تقبيلاً حتى كاد يخنقها بعناقه وهي تضحك بحبور لتصرفاته .. اخيرا عندما استطاعت الكلام اتى صوتها جاداً ..
- حامد .. كدة خلينا نمشي الدكتور اول ونتاكد .. ممكن ما يكون حمل .. احتمال اكون خلاص قطعت عشان كدة دورتي ما جات ....
في عيادة الطبيبة جلس حامد وهو يشعر باضطراب في معدته وقلق شديد عبرت عنه دقات عصاته المتواترة على الارض ...
- مبروك يا حاج .. المدام حامل ...
نزلت كلمات الطبيبة بردا وسلاما على قلبه الملهوف ... احس وكانه يبشر باول طفل في حياته ... وغرقت امونة في بحر من الدلال طيلة شهور حملها التي مرت كالحلم .. وكانت خلالها تزداد جمالاً كلما انتفخ بطنها .. واختل ميزان العدل لدى حامد الذي اصبح يقضي معظم وقته في بيت حبيبته متجاهلاً غضب السرة وثورة نعمات ... كان يقيس تقدم حملها بيديه ومشاعره التي تأججت حتى لم يعد يحتمل فيضانها ... احس كأن الدنيا قد ضحكت له أخيراً بعد طول عبوس ... طارت الايام وتبعتها الشهور وحمل امونة يتقدم بسلاسة ... عندما حان موعد ولادتها اصبح حامد كطفل صغير يترقب حلول العيد ... وٌلد الامين في ظهر يوم صيفي حار .. ونحرت لمقدمه ست عجول وعشرات الخرفان ووزعت بسخاء على المساجد وبيوت الفقراء ... كان حامد يعيش حالة من عدم التصديق لمقدم الولد الذي تمناه طيلة عمره من المراة التي يعشقها ...
عندما اكمل الامين اسبوعه الاول .. توفيت امونة بعد ان باغتتها حمى نفاس غادرة ظلت تصارعها لمدة ثلاثة ايام قبل ان يستسلم جسدها النحيل لترحل مخلفة وراءها زوجاً على حافة الجنون ورضيع رفض تقبّل غياب امه فقرر اللحاق بها بعد عدة ايام .. بكى حامد كالنساء وتحول الى شبح حزين غاضب .. عافت نفسه الاكل والشرب والكلام ... قضى ايام العزاء شارداً في عالم آخر لم يستطع أي كان اختراق اسواره .. بعد انفضاض الجمع انزوى في احدى الغرف البعيدة معتزلاً الجميع ... خرج بعد شهر وقد تغير كل شئ فيه الى الابد ... بدأ وكأن عمره قد زاد عشرون سنة دفعة واحدة فقدت عيناه بريقهما المعتاد .. واكتست تعابيره بجمود مخيف .. لم يعد يحتمل البقاء مع الناس .. قام ببناء غرفة ملحقة بالديوان خارج المنزل ومنع الكل من دخولها ... اصبح عالمه محصوراً بينها وبين بيت حبيبته الراحلة الذي خصص له خادمة تقوم بتنظيفه يومياً .. اضاءة الانوار واطلاق البخور .. اصبح المكان مزاراً يهرب اليه كلما احرقه الشوق .. يجلس طويلاً مع امونة ..يقص عليها احداث يومه ويبثها لوعته على فراقها الذي احرق روحه وجعلها رماد .. ويبكي بوجع غدر القدر به للمرة الثانية..
استيقظت نعمات ونظرت حولها بدهشة .. في البداية لم تستطع تحديد مكان وجودها .. ادارت راسها بتعب لتفاجأ بوجود حامد جالساً في كرسي بالقرب من سريرها .. كانت عيناه المغمضتان وراسه المستند على ظهر الكرسي تدلان على نومه .. على ضؤ الغرفة الشاحب رات نعمات اللمعة على خديه النحيلين .. اغمضت عينيها وفتحتهما مرة اخرى .. فوجدت ان دموع زوجها لم تكن وهماً ولا خيالاً .. اجتاحتها فرحة عارمة انستها سبب وجودها في هذا المكان .. يكفيها ان حامد بقى بقربها طيلة الليل .. وانه قلق لاجلها حد البكاء .. فهي لم تره يبكي الا لاجل امونة .. وبكاؤه من اجلها يعني لها الكثير .. نادته بصوت متحشرج ..
- حامد ... حامد ..
عندما لم يتجاوب مع صوتها الضعيف حاولت ان ترفع يدها لتهزه قليلاً .. لكن يدها رفضت ان تطاوعها .. احست بها ثقيلة كالحجر وملتصقة بالفراش .. انتأبها الفزع وحاولت مرة اخرى .. ومع كل فشل كان فزعها يزداد .. بدات تنتحب بصوت عال ايقظ حامد من حلمه التعيس عن وفاة امونة ركض خارجاً وطلب الطبيب الذي اتى مسرعاً ...
- دي نتيجة متوقعة بعد الارتفاع المفاجئ في الضغط وبالصورة دي .. لكن ما تقلقوا دي مرحلة مؤقتة وإن شاء الله كل شئ يرجع مع العلاج الطبيعي ..
رفضت نعمات البقاء في المستشفى واصرت على العودة الى بيتها فامتثل حامد لرغبتها ورتب لحضور اختصاصي العلاج الطبيعي الى البيت يومياً .. في اسبوعها الاول كان التقدم بطيئاً لكنها استطاعت تحريك يديها بعناء .. ساد البيت جو من الحزن الممزوج بالخوف .. واصبحت نادية كالشبح الهائم وهي تحوم خارج غرفة امها التي رفضت رؤيتها ومنعتها من الدخول اليها .. كان الاحساس بالذنب يفتك بها ..ففرضت على نفسها سجناً اختياريا وامتنعت عن الخروج من المنزل بتاتاً اتصلت بزاهر واخبرته في مكالمة ه...ية قصيرة عن الاحداث التي تلت معرفة امها بزواجهما وقرارها بالامتناع عن الحضور الى الجامعة حتى شفاء والدتها ... لم تفلح كل محاولاته لثنيها عن نيتها فطالبها بان تتصل به كلما واتتها الفرصة ... لكن وجود والدها المستمر بالبيت اضافة الى سيل الضيوف الذي لم ينقطع جعل معاودة الاتصال مستحيلة خصوصا بعد ان امرت نعمات بوضع اله... في غرفتها ... كان مرض امها ورفضها رؤيتها يذبحها ويشعرها بفداحة ما ارتكبته ... اعتادت على تحين فرص نومها لتتسلل على اطراف اصابعها وتتاملها بحزن ... تنسحب بسرعة عندما يهدد بكائها المكتوم بفضح وجودها .. فتهرب الى غرفتها لتجلس وحيدة وهي تعاني خوفها من مستقبلها المظلم ..
في الاسبوع الثالث بدات حركة نعمات تزيد .. وبشرها الاختصاصي بان استجابتها للعلاج جيدة وقد تنقضي فترة قصيرة حتى تعود الى طبيعتها ... كانت تحس بالملل من البقاء وحيدة في وضع ثابت لا يتغير .. فرفعت صوتها منادية ...
- اميرة ... يا اميرة ..
ظهرت هادية في فتحة الباب وسالت امها بحنان اصبح سمتها منذ مرض امها ...
- عاوزة حاجة يا امي ؟؟ اميرة دي مشت تشوف حبوبة العينة قالوا عيانة شديد ومودينها المستشفى ..
ابتسمت لها بفرح وهي تفكر بان مرضها ثمن بخس تدفعه لاستعادة حب ابنتها المتمردة ..
- تعالي يا هادية اسنديني .. عاوزة اقعد شوية ضهري وجعني من الرقدة الكتيرة .. نادية وين ؟؟ ..
- نادية ساكنة جوة الحمام من صباح الرحمن !! ..
رفعت نعمات راسها بحدة للجملة التي نطقتها هادية بلامبالاتها المعتادة
- ساكنة جوة الحمام ؟؟!! .... بتعمل شنو ؟؟ بتستحمى يعني ولا شنو ؟؟!! ...
- والله ما عارفاها يا امي .. لكن زي سمعت صوتها بتستفرغ .. ولمن سالتها قالت مافي حاجة ...
احست نعمات بتنميل في راسها وبرودة في اطرافها وموجة دوار تهاجمها ..
- اديني حبة الضغط سريع يا هادية .. اهي العلبة الفي راس الكمودينو دي وامشي نادي لي نادية ..
وضعت الحبة تحت لسانها ... اغمضت عينيها واسندت راسها على الوسادة وهي تدعو في سرها ان يكون ما خطر ببالها مجرد وهم صوره لها عقلها القلق .. لكن هيئة نادية التي دخلت الغرفة بخطوات مترددة اكدت ظنونها ... كانت تبدو مخيفة بوجهها الشاحب ودوائر سوداء عميقة تحيط بعينيها .. فقد شعرها الطويل حيويته ولمعانه وتدلى باهمال وراء ظهرها .. برزت عظام كتفيها اعلى جسدها الهزيل .. تاملتها نعمات بدقة من راسها وحتى اخمص قدميها .. لمعت في عينيها نظرة ادراك خبيرة رفعت صوتها المحبط وامرت ابنتها الصغرى ..
- هادية .. اطلعي واقفلي الباب وراك .. اقعدي في الصالة وما تخلي أي زول يدخل علينا الا اميرة .. فهمتي ؟؟ ..
- طيب ولو ابوي جا يشوفك اقول ليهو شنو ؟؟!! ..
- قولي ليهو راسي وجعني شديد وبلعت حبوب وما عاوزة زول يزعجني ..
رمقتهم هادية بنظرة مليئة بالتساؤل ثم استدارت خارجة واغلقت الباب خلفها بهدؤ ..
بدات نادية ترتجف بعنف وسالت دموعها غزيرة امام النظرات الغاضبة المتهمة ..
- تعالي اقعدي في الكرسي الجنبي دة ..
اطاعتها بخوف وبدات تتكلم بصوت مهتز تقطعه تشنجات البكاء ...
- امي عليك الله ما تنفعلي .. كل الانتي عاوزاهو بسويهو ليك .. انا حتى الجامعة ما مشيت من يوم ما انتي رقدتي ولو عاوزاني اخليها خالص بخليها .. حاعمل أي شئ بس انتي ترضي علي .. انا ما بتحمل غضبك ...
قاطعتها نعمات بسؤال مباشر...